كلمة سماحة آية الله السيد مهدي الروحاني (دام عزه)
كلمة سماحة آية الله السيد مهدي الروحاني (دام عزه)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله : إن السماء والأرض لتبكي على المؤمن إذا مات ، أربعين صباحاً وأنها لتبكي على العالم إذا مات ، أربعين شهراً ( البحار / ج42 / ص308 / رواية 9 )
جرت العادة على تعريف الفقيد ، في مناسبة مثل هذه، لكني أراني عاجزاً عن تعريف شخصية عبقريٍ فذٍّ ، مثل فقيدنا في كلمات أو سطور.
هذه الشخصية التي أثكلت الأمة الأسلامية بفقدها ، قليل في أبعاد حقيقتها فنون الخواطر ، أو بالغة التعبير.
عاشرته عن قرب ، ملازماً له مدةً تزهوا عن ثلاثين عاماً ، ولمست فيه من المكارم والفضائل ما لو دونتها في قراطيس ، لكانت كتاباً ضخماً.
لقد كان عالماً كبيراً ، ومحققاً دقيقاً ، وعابداً متنسكاً ، ومربياً عطوفاً ، وسيداً مهيباً ، مع ما كان يحظى به من التواضع والبساطة ، ومحسناً بكل ما يملكه ، إلى درجة لو قلت فيه: أفنى عمره في الأحسان لما بالغت.
إنه كان من أولئك النوادر ، الذين ارتهنت حياة الجيل به فكراً وعلماً ومعيشةً ، في كافة جوانبها ، فإن فارقهم هذا العماد ، أحدث فراغاً لا يسده شيئ .
كان صاحب مدرسة علمية ، مبنيّة على براهين رصينة ، وأسس راسخة ، في أعماق قلوب طلابه ، وخريجي مدرسته . مع كونه معلم أخلاق يدفع الطالب بعمله ، إلى الطريق القويم.
ستمضي الدهور على الحوزات ، وتصرف الأموال فيها طوال السنين المتمادية ، ولا تنتج الجامعاتُ العلمية ، مثلَ الإمام الرحل ، إلا بعدد الأصابع أو أقل.
توفي رضوان الله عليه ، وقد بلغ الثمانين من عمره الشريف ، ودخل الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، في العقد الثاني من عمره ، وخرج منها قسراً ، بعد مضي ما يقرب من خمسين سنة .وفي كل هذه المدة ، لم يترك الحوزة إلا دفعات قليلة جداً . وحينما يضطر إلى ذلك ، فسرعان ما يرجع إليها ، ولم يكن يقضي أيامه في عطلات الصيف أو الشتاء ، إلا في مراجعة العلم .
كان عاكفاً على الدرس والتدريس ، منقطعاً في طلب العلم ، مجداً في التحقيق ، مهتماً بتلامذته . إن لقى طالب علم مجِدّ ، يفرح به ويشجعه ، وإن سمع بفركة جديدة مبتكرة في العلوم الدينية ، يتسرع إليها فيتعمق في أركانها ، ويشذّب فروعها لينقحها .
كان النجف الأشرف يعيش آنذاك ، عصرَه الذهبي ، إذ كان معهداً للعلوم الأسلامية بكل معنى الكلة ، فكان التيار السائد فيه ، تيار العلم والأبداعات العلمية الرائعة ، تجري المباحثات العلمية ، وتطرح المسائل الشرعية ، في كل ظاهرة من ظواهر الحياة ، وفي كل مكان يتواجد فيه إثنان ، سواء في المقام المطهّر العلوي ، وصحنه الشريف ، الذي كان ملتقىً ومركزاً للكل أو في حلقات الدروس ، أو الجالس العادية ، والمناسبات ، وكذلك حتّى في السوق والشوارع.
ما كان يلتقي الفضلاء بعضهم البعض ، إلا ارتفعت أصواتُهم بالبحث العلمي ، ولم يكن يهتمّ أحدهم إلا بإثبات ما يرتأيه ، من المباني العلمية ، ويتفرقون وهم إخوان أصدقاء ، يتفرقون ليجتمعوا في موضع آخر ، فيستمرون في ما كانوا عليه .
واشهر هذا المثل: أن من أقام في النجف فترة من الزمن ، أصبح عالماً وإن لم يدرس ، وذلك بسبب كثرة مذاكرة العلم في المجالس .
كان النجف يضم ف يأزقّته الضيقة ، وبيوته القديمة المتواضعة ، عشرات من العلماء الفحول ، وحملة العلوم الأسلامية ، أمثال: الميرزا النائيني ، والشيخ العراقي ، والشيخ محمد حسين الأصفهاني ، والشيخ محمد كاظم الشيرازي ، والشيخ محمد رضا آل ياسين ، والشيخ محمد علي الكاظمي ، والشيخ موسى الخوانساري ، والسيد الحكيم ، والسيد الخوئي ، وغيرهم من المفكرين والأفذاذ ، الذين لا يسع المقال ذكر أسمائهم ، قدس الله أسرارهم ، وجعل الجنة مثواهم .
دخل فقيدنا الغالي النجف الأشرف ، وهو في ريعان شبابه ، وأخذ يرتقي سلّم الكمال بسرعة فائقة . إذ كان يخظى بالذهن الوقاد ، والعقليّة الجبّارة ، والقدرة الكافية ، فاستغلها في سبيل تحصيل العلم . لم تفت عنه فرصة ، ولم يدع وقته يضيع سدى ، لم يكن يدرس دراسة عادية وكما يقال لمجرد إسقاط التكليف ، بل كان مولعاً في تحصيل الفضائل ، ما كان يفكّر إلا بالمطالب العلمية ، يسهر الليل ، ويبكر النهار ، لم يكن يكتف بمذاكرة العلم في مجلس الدرس خاصة بل كان حديثه العلم ، وسكوته التفكر ، وكان يمضي أوقات خلواته في حل غوامض المطالب .
كان جسوراً لا يهابه علة مقام الشخص ، فكان ينقد أفكار الأكابر والفحول بجرئة فائقة ويوضح زيفها .
إجتهد غاية الجهد ، حتى نال المراتب العليا ، فأضحى عالماً جليلً معروفاً ، في أوساط العلم والعلماء ، ومدرساً متظلعاً في الحوزة ، يقصده الفضلاء ، للأستضائة بنور علمه . وكل ذلك في فترة قصيرة ، لم يبلغ العقد الثالث من العمر ، حتى نال رتبة عالية من العلم والأجتهاد .
مولاي وسيدي ...
كنت نبراساً مضيئاً ، وعلماً شاخصاً في الفقه ، وحصناً منيعاً ، ومنهلاً صافياً للقواعد العلمية ، بك وبآرائك القيمة ، تطمئن النفس عن طرو الأخلال بأحكام الشريعة . وقواعدها الرصينة ، إعترف بفضلك ونبوغك العلمي ، حتى الأباعد من مخالفيك .
كنت تحب الفضل وتقدر الفاضل وتحترمه وتوصي الأخرين بتكريمه .
كانت عشرتك مع طلابك وكأنك أحدهم ، تسمع شكواهم ، وتعالج همّهم ، ينظرون إليك نظر الولد إلى الوالد الحنون .
أتحفت مولاك صاحب العصر ، عجل الله تعالى فرجه الشريف ، بكوكبة ثمينة ، من العلماء الأبرار ، وهم تلامذتك الأفذاذ ، الذين تعبت عليهم ، وصرفت عمرك في تربيتهم ، فتخرجوا على يديك ، وأضاؤا المجاميع العلمية ، بنور علمهم ، فمنهم من استشهد على يد الجبارين ، رضوان الله عليهم . ومنهم من بقي يمارس نشاطه العلمي ، حائزاً كرسي التدريس العالي ، في مختلف الحوزات العلمية . وفقهم الله لمرضاته .
وكذلك تركت للأجيال اللاحقة ، كتباً قيمةً ، كتبتها يمناك الطاهرة ، وأخرى تقريرات دروسك التي كتبها المفاخر من تلامذتك ، وأثار ما خرج منها إلى عالم النور والطباعة ، إعجاب العلماء والفضلاء في كل مكان .
كنت عابداً كثيرة العبادة تداوم على المستحبات الشاقة ، ولم أنس تختيمك القرآن في كل يوم ، حينما كنت معتكفاً في مسجد الكوفة .
كنت ساعياً للخير ، يستنير بعقليتك القوية ، في حل المشاكل الأجتماعية ، أصحاب الحل والعقد في النجف الأشرف ، فكم من مشكلة عرضت على الأعاظم ( رهم ) وقد أحضروك لحلها ، فنوّرت لهم الطريق ، حتى المشاكل التي لا يدعي لحلها إلا القريب اللصيق .
كنت مربياً للذين عاشروك ، تحثّهم على العلم والعمل ، فإنس سمعتك تقول مراراً لي ولغيري إعمل بمالك أو بنفسك في يومك ، عملاً واحداً على الأقل خالصاً لوجه الله تعالى .
تواضعك البالغ ، وأخلاقك الحسنة وأريحيتك الممتازة ، دفعت بمن عاشرك ، ليتخّذك مرشداً . فلم يكن يغادرك إلا ويتمنّى الرجوع إليك في أسرع وقت . وبهذا السبب منع حاسدوك أعوانهم في فترة من الزمن أن يحضروا مجلسك ، خوفاً منهم من التأثر بكلامك الحلو ، وبرهانِك القاطع .
كنت تحمل في جنب هذا التواضع البليغ ، إباءً في النفس ، وشموخاً في الذات ، فلم تخضع للمال بالرّغم من إعوازك الشّديد ، في أحيانٍ كثيرة . ولم تركع للقدرة مهما كانت سَطوتها ، ولم تأخذك في الله لومة لائم .
كنت سخياً غاية السخاء ، لا تحب المال إلا للصرف في الموارد المحتاجة ، فإن اُخبرت بمورد محتاج وأوصلت إليه ما عندك ، كان ذلك اليوم ، عيدك الأكبر ، لا يزول التبسم فيه من شفتيك . ما كنت تصبر للنهار إن اُخبرت بالليل ، فكنت تصل الفقراء بنفسك ، في ظلام الليل أو حين الفجر . وكنت تُلحّ علينا الإيصال ، في أقرب وقت وتقول: لعله الآن يحتاج إليه فاكشفوا كربته .
سيدي ومولاي ...
أتتك المرجعية بأثقالها ، فلما تحمّلتها شددت لها حزاماً ، واشتغلت بهداية الأمة وبيان أحكام الله للأمة ليلً ونهاراً ، فإني شاهدتك تترك الراحة والنوم ، رغم كونك في العِقد السابع من العمر ، تفكّر في معضلةٍ فقهيةٍ ، أكثر من عشر ساعات تباعاً .
ما كان همّك في هذه المرحلة من حياتك ، إلا الخدمة لشريعة سيد المرسلين ، صلى الله عليه وآله . فقمت لها بكل ما أوتيت ، من وسع وقوة ، لم يَعِقك دون هذا الهدف السامي ، تعريض المغرضين ، ولم يُخفِ صوت حقك ، هتافات السذّج والجاهلين ، ولم تقعد عن القيام بما تحمّلت على كاهلك من الواج ، أما الله ورسوله وأوصيائه عليهم السلام .
فصمدت كمرجع ديني ، تتزعم الحوزات العلمية ، تحنو عليها حنو الأب المربي ، مقصوداً لديها لترعاها في حلّ مشكلاتها ، كما ترعى فقراء المؤمنين في شتّى بقاع الأرض ، حتى أجبت داعي الله وأنت على هذا العهد .
مولاي ...
هذه حياتك المشحونة بالتضحية والشرف .
كنت كالشمعة المضيئة تذوب وتضيئ ما حولها ، إلى أن اختار الله لك الرحيل إلى جواره ، فرحلت عنا سريعاً ، وتركت نفوسنا حرقة لا تبرد وحسرة لا تنجلي ، ففقدناك فقد الأرض وابلها . و ...
بهذه المناسبة الأليمة ، نرفع أسمى آيات التعازي ، إلى بقية الله في الأرضين ، صاحب العصر والزمان ، عجل الله تعالى فرجه الشريف ، سائلين الله العلي القدير أن يحفظ المراجع العظام من كل سوء .
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ابنك البارّ
محمد مهدي