على ضفاف أربعينية الإمام الروحاني (سماحة الخطيب المتألق الشيخ محمد جمعة دام موفقاً)

المحرر

 

 

( على ضفاف أربعينية الإمام الروحاني ) [1] 

سماحة الخطيب المتألق الشيخ محمد جمعة  دام موفقاً

 

    ليس ثمة من يدعي قدرة إحصاء الوافدين إلى دنيا الوجود والحياة ، وكذلك الحال في الراحلين عنها ، فإنهم فوق الحد والحصر ... بل حتى الأرض والتراب - وهما المؤرخان الأمينان - فلأنهما لم يحتفظا بجل شواهد الرموس وآثار القبور ، بيد أن المجد والعلياء والفضيلة تكفلت بفخر وعز تليدين تخليد عمالقة العلم وأساطين الإيمان والفضيلة والشرف ، بعد أن اقترنوا بها ، واستطاعوا أن يطبعوا بصمتهم الخالدة على جبين الدهر ، فلم يكن للدهر بُدٌّ من تخليدهم ، فلم ينتهوا أو يموتوا بتصرم أعمارهم وفناء أيامهم .. شأنهم شأن محكي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " يموت الميت منّا وليس بميت ، ويبلى البالي منّا وليس ببال "  وقوله ( عليه السلام ) : " هلك خزان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة " .

    لقد ودعت الأمة الإسلامية وحوزاتها العلمية المباركة ، قبل أربعين يوماً بأسف عميق وحزن بالغ ، طوداً شامخاً من أطواد العلم ، وبستاناً زاهراً من بساتين الفكر والفضل ، وآية من آيات الخلق النبوي الكريم ، ذلك برحيل مرجع الأمة ، وفقيه أهل البيت ( عليهم السلام ) وزعيم الحوزة العلمية ، آية الله العظمى ، السيد محمد الحسيني الروحاني ... فضم بذلك إلى سجل ركب الخالدين ، ضمن سلسلة السلف الصالح من العلماء الباقين .

   لقد كان الفقيد بقية السلف الماضي من الفقهاء والعلماء ، ونتاج فضائلهم ، ومحط مواريثهم ومكارمهم ، جمع العلم إلى الفضل إلى الخلق السامي الرفيع ، فقد تربع على دكة المرجعية العليا للطائفة ، منذ وفاة زعيمها الراحل ، الإمام السيد الخوئي ، وحتى غيبه الفناء والقدر ، كان خلالها مثالاً للأب الرحيم العطوف على شؤون متعلقيه ، كثير التحفي والتفقد والسؤال عن أحوال ضعفاء المسلمين ، ماداً يد العون والخدمة إليهم ، موصياً بذلك ، نادراً نفسه لقضاء حوائجهم ، لا يفرق في ذلك بين الأقربين والأبعدين .

    لقد حظي بملكات نفسية عليا ، قلّ ما تجتمع في شخص واحد ، على كونه نبعة فوارة من العلم ، قد خرج من الفقهاء والمجتهدين الكثير في حوزتي النجف وقم ، من أمثال النابغتين الشهيدين : السيد محمد باقر الصدر ، والسيد عبد الصاحب الحكيم .. فقد كان على درجة مرموقة من الخلق العالي ، الحاكي خلق أجداده الطاهرين ، بشوشاً سمحاً بهياً مهيباً ورعاً عفاً ، بشره في وجهه ، وحزنه في قلبه ، إذا حدثته أعطاك كله ، وإذا حدثك خصك بالبشر ، وعمَ الحضور بنظره السخي الجذاب ، آخذاً بمجامع النفوس ، متربعاً في سويداء القلب ، لا تكاد تفارقه البسمة والطرفة ، لقد جالسته فوجدته لين الجانب ، موقراً الكبير ، ويحنو على الصغير ، روحه مزهرة باسمة شابة على شيخوخته وسقمه ، كثير الذكر لله تعالى والدعاء والتوجه له ، كثير التوجع والتأوه لرزايا آل محمد ( عليهم السلام ) والبكاء على سيد الشهداء ( عليه السلام ) .

   لقد عاش أباً كريماً محبوباً ، يتقاطر خلقاً سامياً ، ويتفجر علماً وفضلاً زاخراً ، يحمل قلباً كبيراً مفعماً بالعطاء والفضيلة والإيمان والمعرفة ، حتى توفي سعيداً محتسباً ، وشيع جثمانه تشييعاً باهراً ، حضره آيات الله الكبرى،  وحجج الإسلام وسائر وادّيه ومحبيه ، ودفن في بيته تأسياً بآبائه الأئمة الطاهرين ، والذي قد أوصى بتوقيفه لذكر الحسين ( عليه السلام ) مخلفاً بذلك الذكر الحسن الجميل ، مضافاً إلى الآثار العلمية المهمة الكثيرة ، المطبوعة والمخطوطة ، كمنتقى الأصول والمرتقى إلى الفقه الأرقى ، وغيرها من تقريرات بحثه في الحوزتين ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً ، ويا أسفي عليه وعلى فقده ، وعلى عظم الثلمة العظيمة التي لا يسدها شيء بعده ، مضى ولم تطل أيامه ، ولم ننعم بوارف ظله الظليل إلا قليلاً ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون .

 

 

[1]  جريدة الوطن الكويتية ، تاريخ : 6 سيبتمبر عام 1997 م .