ذكرى الأربعين (علي حسن الزين)
ذكرى الأربعين
علي حسن الزين
بسم الله الرحمن الرحيم
كثير من الناس يشغلون أنفسهم في مناقشات فرعية في الفروع الفقهية ، ويحتدم الأمر بينهم ، ولا يصلون إلاَّ إلى طريق مسدودة .
والسبب في ذلك هو تدخلهم في أمر لا يجوز لهم الخوض فيه ؛ لأن إقامة الأدلة على الفروع ، إنما يكون لشخص قد بلغ مبلغاً عالياً من الفقاهة فقط .
نعم ينبغي أن يكون النقاش في إقامة الأدلة على صحة المذهب ، فإذا قام الدليل على الأخذ بمذاهب الجمهور _ ولا يقوم _ وجب التعبد بمذاهب الجمهور ، وإذا قام الدليل على وجوب الرجوع إلى أهل البيت وجب الرجوع إلى أهل البيت ( ع ) ، وبما أن العامي يصعب عليه معرفة الأدلة ، فيجب عليه أن يرجع إلى فقهاء المذاهب أو إلى فقهاء أهل البيت ( ع ) .
ولمَّا عُلِمَ بالضرورة قيام الأدلة والبراهين الساطعة من الكتاب والسنة القطعية على وجوب الرجوع إلى أهل بيت العصمة ، انقطعت الشيعة إليهم في أصول الدين وقواعده ومعارف الكتاب والسنة والفقه والسلوك وكل واقعة ، فكانت شيعة آل محمد تتمتع بالحكم الواقعي المطابق للوح المحفوظ إلى عهد الغيبة الصغرى ، فلما انتهت حُرمت الأمة من الحكم الواقعي بسبب الناس .
ولكن رحمة الأئمة الواسعة جعلتهم أن يهيئوا لشيعتهم أناساً يرجعون إليهم في أمور دينهم ودنياهم ، وهم الفقهاء الأتقياء ، الحاملون لعلومهم ، السائرون المقتدون بهداهم ، ويستكشف المكلف أن الأئمة لم يعينوا أحداً من الفقهاء في زمن بخصوصه وبعينه ، وعليه فالذي ينطبق عليه الوصف بشهادة أهل الخبرة يكون هو المرجع في الشريعة المقدسة طبق فقه أهل البيت ( ع ) ، فكانوا موضوعين على نهج القضية الحقيقية ، فإذا وثق المكلف بشهادة أهل الخبرة من غير أهل الأهواء ، ورجع إلى مرجع جامع لشرائط الفتوى يكون منجزاً عليه ما يقولـه ويكون معذوراً يوم القيامة .
ومن هذه المفاهيم يعرف أنه لا اختلاف بين المقلدين من جهة المفهوم في ما يحمله المرجع من شرائط الاجتهاد والأعلمية والحياة والتقوى والضبط ، ولكن الاختلاف من جهة المصداق فينتج عدم الاختلاف ، لأن الكل يريد أن يوصل المكلف إلى أهل البيت بحسب ما يفهمه من كلامهم وما يؤدي إليه نظره ، فعلى هذا ينبغي عدم الخلاف والتفرقة بين المؤمنين .
ونحن الآن في صدد ذكرى أربعين المرجع الكبير للطائفة الشيعية ، الذي رزئت الأمة الإسلامية هذه الأيام برحيله ، وبموته تهاوى علم من أعلام الفرقة الناجية المحقة ، ومرجع كبير من أركان التشيع ، ذلكم هو أكبر خريج لمدرسة زعيم الحوزة العلمية ، بطل العلم ، آية الله العظمى ، السيد أبو القاسم الخوئي ( قده ) ، وفقدت الأمة اليوم وجه الفقه الشيعي كما يقول أحد العلماء .
كثير من الناس لا يستشعر فقد العالم ؛ لبعده عن الروح المعنوية ، وعدم إحساسه بالكمالات الإنسانية المودعة فيه ، ومدى ما يحمله من فضائل جسيمة ومراتب عالية ، إذ أن مرتبة الاجتهاد والمرجعية الحقيقية والواقعية ليست بالهوى والميول والمشتهيات ، وإنما هي ببلوغ المراتب الراقية والدرجات الرفيعة ، ويُعرف ذلك بشهادة العلماء الأكفاء الأتقياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم .
وهذا السيد الجليل موضع تقدير العلماء الأعاظم والمراجع والمجتهدين ، ولو لم يكن إلا موضع تقدير واحترام سيد الأساطين السيد الخوئي ( قده ) لكفاه فخراً وشرفاً ، إذ كون مثل السيد الخوئي عليه الرحمة يتمنى السيد الروحاني أن يكون زعيماً للحوزة في النجف ، ويريده أن يكون أستاذاً لطلابها الخيرين ، شهادة عليا أرجح من كل شهادة ، وكل كلام يعارض شهادة السيد الخوئي فهو مرجوح .
والسيد الشهيد الصدر يطلق عليه : ( سيدنا وسندنا ) وما أكبره من فخر أن يكون رجل سنداً للسيد الشهيد الصدر .
إنّ العلم من صفات الجلال فيقدر حامله ، فكيف وفقيدنا مستودع لعلم آل محمد ( ع ) وحافظ من حفظة الشريعة المقدسة .
عاش السيد الروحاني عمراً ناهز سبعاً وسبعين سنة ، قضاها في خدمة الدين والمذهب تلميذاً وأستاذاَ ومؤلفاً ومحققاً ومصنفاً ومروجاً لأحكام الدين ومبرزاً لعقائد الإسلام الحقة .
وكفاه فخراً أن خرج طائفة من المراجع ، ومن بينهم : السيد الشهيد الصدر ( قده ) والشيخ بشير الباكستاني النجفي ، وآية الله السيد عبد الصاحب الحكيم ، ابن الإمام السيد محسن الحكيم ( قده ) إضافة إلى كوكبة من المجتهدين والفضلاء ، من بينهم : الشيخ محمد مهدي شمس الدين ، والسيد محمد حسين فضل الله ، والسيد علي مكي العاملي ( أطال الله أعمارهم وجعلهم خداماً للشريعة المقدسة ) .
وهنا أود أن أبين نقطة جديرة بالاهتمام ، ألا وهي إن كثيراً من الناس لا يحسبون العالم عاملاً إلا إذا برز له مشروع مادي ، كمساعدة الفقراء أو إنشاء مركز إسلامي ، وأنا لا أنكر أن هذه الأمور مصاديق للأعمال الخيرة ، ولكن العمل الذي يهتم به العلماء في التدريس والتأليف والتحقيق لا يقل أهمية عن هذه الأمور ، بل إن هذا العمل أكبر خدمة للمذهب ؛ فإن هذا العمل يترتب عليه إنقاد مجتمعات من النار وإدخالهم الجنة ، فعلى الإنسان أن لا يتسرع في الحكم ، بل عليه أن يكون موضوعياً في تصرفاته ، كما كان العلماء موضوعيين في دراستهم للأمور ؛ لأنهم يؤخرون العواطف للوراء ، ويُعملون العقل ، ويخالفون هواهم ، وهؤلاء هم المراجع الجامعون لشرائط الفتوى ، والسيد الروحاني من بين هؤلاء ، فقد حمل علماً جماً ، وخالف هواه ، وأطاع مولاه ، ولم يكترث بمن رضي أو غضب ، وهذا هو العالم الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، فسلام عليه يومَ وُلدَ ويومَ ماتَ ويومَ يُبعث حياً .